القلعة السوداء
أكتب إليك رسالتي الأخيرة لعل الله يقدر لي بها سبيلا للنجاة بعد أن بدأ العد التنازلي للنهاية. استحلفك بل وأتوسل إليك ألا تتخلي عني فقد لا تواجهني صعوبة بعدها في ايجاد طريقة للتخلص من حياتي, فلم أعد اطيق البقاء علي هذه الدنيا ولا أجد لوجودي بها قيمة, لقد أعلنت اليوم رفضي لعالم عاقبني طوال ثلاثة وعشرين عاما هي سنوات عمري علي ذنب لم اقترفه, ولم يكن لي أدني تدخل فيه, إلي أن جاءتني الفرصة الطبيعية كأي فتاة لابدأ حياة مستقلة بما شرعه الله لي من حق في الزواج, فأبي إلا أن تكون هي الاخري مكبلة بشروط قاسية وعقبات لم ينزل الله بها من سلطان.
* أكتب إليك رسالتي الأخيرة لعل الله يقدر لي بها سبيلا للنجاة بعد أن بدأ العد التنازلي للنهاية. استحلفك بل وأتوسل إليك ألا تتخلي عني فقد لا تواجهني صعوبة بعدها في ايجاد طريقة للتخلص من حياتي, فلم أعد اطيق البقاء علي هذه الدنيا ولا أجد لوجودي بها قيمة, لقد أعلنت اليوم رفضي لعالم عاقبني طوال ثلاثة وعشرين عاما هي سنوات عمري علي ذنب لم اقترفه, ولم يكن لي أدني تدخل فيه, إلي أن جاءتني الفرصة الطبيعية كأي فتاة لابدأ حياة مستقلة بما شرعه الله لي من حق في الزواج, فأبي إلا أن تكون هي الاخري مكبلة بشروط قاسية وعقبات لم ينزل الله بها من سلطان. لكن قبل هذا القرار سوف أترك لك رسالة اخري وأوصي بأن تصلك موقعة بالدماء قد لاتتردد كثيرا وقتها في نشرها فتصل متأخرة فقط كنموذج صارخ لفتاة قضت أيامها في قلعة سوداء قد تبكي قراءك وتثير الرأي العام, لكنها لن تذيب ألواح الثلج تلك الكائنة في ضمائر الجناة.
أنا الابنة الكبري لأب يعمل بوظيفة مرموقة وأم علي درجة عالية من التعليم والثقافة كان لهما الفضل الأكبر فيما وصلت إليه الآن, فبغض النظر عن كرههما لانجاب البنات واعتبارهن مسئولية خطيرة منذ اليوم الأول حتي اليوم الأخير فهما ينتميان إلي مجتمع غريب يملأه الحقد والفضول فلايهتم أفراده سوي بالفضائح والاسرار والتدخل في حياة الغير. لقد بدأت مأساتي معهما منذ نحو خمس سنوات عندما شاء لي القدر أن التقي بشخص غير حياتي, فكان أول من عاملني كإنسانة لها كيان واحساس, لقد أدخل الدفء إلي حياتي وأضاء شمعة أمل صغيرة سرعان ما انطفأت عندما أدركت أنه لا يحاول الاقتراب مني ويتجنب الاعتراف لي بحبه, ولم تطل حيرتي بعدها لأعرف السبب,
لقد عرف من شقيقته وهي احدي صديقاتي بالكلية أن الفارق بيننا كبير لا يمكن تجاوزه فقرر أن يبتعد في هدوء, إنه شاب بسيط يدرس باحدي الكليات التي ليس لها مستقبل, يعيش ظروفا متواضعة يرعي والدته بعد وفاة والده وزواج اخوته الكبار, ولم يكن امامي أنا الاخري سوي الاستسلام, لكني لم استطع النسيان فعشت انتظر مصادفة تجمعني به أو لقاء, حتي جاءت البداية ليعلن كل منا للآخر عجزه عن المقاومة.
فقد اصبت في حادث ودخلت المستشفي, واصطحبته شقيقته معها في الزيارة المسائية ليوصلها نظرا لبعد المسافة وتأخر الوقت لكنه لم يكن يعرف أنه سيراني.
رأيت في عينيه يومها كل ما حاول أن يكتمه عني طوال تلك المدة, وشعر هو الآخر من دموعي بضعفي وقلة حيلتي, وهكذا بدأنا لأعيش معه أسعد أيام حياتي واكتشفت من صفاته واخلاقه ما تعجز كلماتي عن وصفه. فقد وجدته شابا متدينا علي خلق, يضع الله امام عينيه في كل أفعاله. وعدني بألا يتخلي عني وأن يبذل كل مايستطيع من أجلي, ولم تمض سوي أشهر قليلة علي تلك السعادة حتي قررنا أن تأخذ علاقتنا شكلا رسميا, لكن هيهات. فقد رفض أبي ذلك بشدة وتعمد الاهانة في رفضه حتي يكون ذهابه بلا رجعة ويبتعد عني للأبد, فكل ما يملكه لا يكاد يتعدي ثمن فستان الزفاف الذي ارتدته فلانة ابنة فلان التي هي أقل مني مالا وجمالا.
وكيف يوافق أبي علي خطبة قد تستمر عاما أو عامين لن يستطيع خلالها سوي توفير أقل ضروريات الزواج, فلا يجوز أن تتزوج ابنته إلا صاحب المال والنسب في مراسم تنال رضا الناس ولا مانع من أن تأخذ جزءا من ذاكرتهم.
لقد نسي أبي قول الرسول الكريم: إذا خطب اليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادا كبيرا لم يتذكر سوي رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. لقد صدمت بهذه الحقيقة صدمة أقعدتني الفراش ما يزيد علي شهرين خصوصا وقد تولت أمي الأمر لتعيدني إلي رشدي أو تعيد تربيتي ـ كما قالت ـ تدهورت حالتي النفسية وتساقط شعري ونقص وزني وملأت جسمي بقع غريبة, وبقيت تحت العلاج مدة طويلة, وتمكنت من الاتصال به بعد مدة ليقول لي إن أبي لديه حق فيما قاله ولو كنت مكانه لفعلت مثله, أنت تستحقين أفضل مني بكثير واعتذر لي عما سببه لي من احراج ورفض أن يكمل المشوار.
مرت بعدها الأيام بطيئة كئيبة حتي عرفت من شقيقته أنه التحق باحدي الهيئات الخاصة التي لها مستقبل أفضل, وفي الوقت نفسه باع ميراثه من والده ليسدد مصروفاتها وأصبح يدرس بالصباح ويعمل بالمساء ربما يستطيع أن يحقق شيئا يرضي به أبي. وطلب منها ألا تخبرني بهذه الخطوة حتي لا أعيش علي أمل قد لا يتحقق, لكنها لم تكتم هذا عني ولم يفرحني هذا الخبـر بقدر ما آلمني, فهذا ليس دليلا علي حب عظيم لي فقط أو علي تضحية بكل ما يملك من اجلي وانما دليل علي أمل معذب مازال يعيش عليه, لذلك قررت عدم الاستسلام أنا الاخري وأن أظل بجواره إلي النهاية ووعدته بألا اكون لاحد غيره ووعدني هو بألا يدخر جهدا في إسعادي وتوفير مستقبل لائق بي.
وانتهت مدة دراسته بعد كفاح مرير وتحدث مع ابي ثانية علي أمل ان يوافق هذه المرة خصوصا وقد شرح له تحسن ظروفه واستعداده للسفر بالخارج لكن أبي لم يرحمنا فكان رفضه هذه المرة بعناد وإصرار, وقال له أنت لو اشتغلت ليلا ونهارا عشر سنوات فلن تستطيع أن تجمع مهر إبنتي ولم تشفع لي دموعي ليدرك مدي احتياجي لهذه الموافقة.
أصابني يأس شديد جعلني أفكر في الزواج منه ووضعهم أمام الأمر الواقع وعرضت عليه اقتراحي فرفض وقال لي أنت لا تستحقين ذلك بعد كل هذا الصبر, إنك لن تخرجي من بيت أهلك إلا عروسا وسط رضا الجميع لكنك لن تكوني لي. وأخبرني بأن ظروفه قد تعقدت أكثر فلن يستطيع السفر قبل قضاء الخدمة العسكرية, وقال لقد انتهت رحلتنا عند هذا الحد فلم يعد بيدي شيئ افعله.. أتمني لك السعادة.
ولم تمر سوي أيام قليلة حتي تقدم لأبي العريس المنشود إنه إبن احد اصدقائه المقربين فوافق علي الفور فهو يمتلك الشقة المؤثثة والسيارة المناسبة والعمل المريح, كما أن والده يستطيع إقامة حفل زفاف مشرف, لقد كانت هذه المؤهلات هي الثمن فقرر ابي ان يبيعني به دون حتي ان يأخذ رأيي. وتمت الخطبة سريعا لأجد نفسي أمام شخص غريب يفتقد كل معني للرجولة, فقد ولد كما يقولون وفي فمه ملعقة ذهب, ولا أكاد أتعدي في نظره واحدة من قائمة مزدحمة بالفتيات قد أكون أنا أقلهن جمالا وروشنة, لكن الواحد لما بيفكر في الاستقرار والزواج بيدور علي الأصل لأنه هوه الأهم, هذا ما قاله لي في اول لقاء. ولن أزيد في نظره علي زوجة آلية ليس عليها سوي الطاعة والولاء, وكأن ابي اختاره بعناية ليكمل معي تلك الرسالة المتوارثة ويتأكد أني سأعيش ما تبقي من عمري في ذلك القهر الذي تربيت فيه.
قد تتعجب أن وضعا كهذا مازال موجودا في عصرنا هذا, وقد تسألني: لماذا لا اعترف لخطيبي وأشرح له حقيقة شعوري وأخبره بأني حتي لم أوافق عليه عندما تقدم لخطبتي؟! فهذا الاعتراف ليس الا فضيحة كبري ظلوا يحرصون علي عدم وقوعها سنوات. ولا أعتقد كذلك أن هذا الإعتراف يهمه كثيرا فربما يزيده إصرارا وعنادا وتماديا في تعذيبي, كما ان ابي لن يرضي من بعده إلا بمن هو في مثل وضعه ومؤهلاته أو افضل منه لذلك فلن يكون الفارق كبيرا.
سيدي لقد حدد أبي أخيرا موعد عقد القران, ذلك العقد الباطل بجميع المقاييس لتنتهي القصة أو تبدأ لا أدري. وقد بقي علي ذلك الموعد أقل من شهرين لذلك كان قراري بأن اضع انا النهاية فلن أجلس لانتظارها كما يفعل من أهلكه المرض أصبح الموت هو شفاؤه الوحيد. وأترك لك جزءا من هذه النهاية يكتبه قلمك ردا علي رسالتي هذه عسي ان تبدأ هذا الرد بكلمة ياعزيزتي أو يا ابنتي فأنا حتي لا اسمعها من اقرب الأقربين الي, حتي امي اغلقت قلبها في وجهي واتهمت مشاعري بالمراهقة لقد كانت دائما هكذا تطير فرحا عندما تري فلانا ينظر إلي في إحدي المناسبات نظرات إعجاب ساخنة وتلومني علي عدم التجاوب معه فهو حلم كل فتاة, كما أن والده من الشخصيات المرموقة, وتموت نكدا لان آخر أحبني وأراد ان يتزوجني في شرع الله ويبدأ معي حياة متواضعة نبنيها معا ونسعد بكل مراحلها راضين بما قسمه الله لنا وما أنعم به علينا.
سيدي لقد أعياني التفكير وفكرت في ان اكتب لك بعد ان استخرت الله كثيرا لتكون آخر محاولة أبذلها لإنقاذ نفسي ومساعدة إنسان بذل كل ما يستطيع من اجلي, لكن مع الاسف وقفت ظروفه المتعثرة حائلا بيني وبينه. فليس له أب ينفق علي زواجه وربما أمامه مدة طويلة لتحقيق تلك المعادلة الصعبة, وقد وصل حاله من يأس واحباط لدرجة جعلت والدته تبكي وهي تحدثني وتسألني لماذا تركته؟وتستحلفني بأن افعل اي شيء لإنقاذه.
لقد منعت حتي من انتظاره. فهم ينتظرون اليوم الأخير بفارغ الصبر. ربما كانت كلماتي مؤلمة, ولكنها لم تعبر بعد عن الواقع. صدقني أنا لست طامعة في شيء ولو معي المصباح السحري لما طلبت منه أكثر من العيش بسلام مع من أحب. لكن هذا لن يحدث قبل توافر تلك الشروط القاسية فهل تقرر مساعدتي؟
ربما يكون توفيرها بشكل مؤقت كاف جدا. حتي يتبدل ذلك اليوم الأسود الذي سأزف فيه إلي ذلك الصنم بيوم آخر من أيام الجنة. تخيل أنك تشاركني فرحتي في ذلك اليوم.
* ابنتي العزيزة: ها أنا أبدأ بما أحببت, وأضيف ان لغتك في التعبير عن نفسك وعن مشاعرك ومجتمعك أذهلتني, ففي مثل عمرك تكون الأفكار مشوشة او عاجزة عن الوصول للآخرين, ولكنك نجحت في التعبير عن القلعة السوداء بداخلك وليست تلك التي تعيشين فيها.
تلك القلعة التي غرسها فيك والداك, فجعلاك تشعرين بأنك تدفعين ثمن انك أنثي, وهذا فكر غريب وشاذ وجاهلي لايليق بأب يعمل في وظيفة مرموقة وأم علي درجة عالية من التعليم والثقافة, ولا أدري أي علو وأي تعليم وأي ثقافة تلك التي تؤدي الي غرس مثل هذه المفاهيم في قلوب صغيرة.
صغيرتي.. أقدر مشاعرك, وأقدر غضبك, كما أتفهم اندفاعك, ولكن اسمحي لي ـ قبل ان اناقش ماجاء في رسالتك وأتوجه الي والديك ـ ان الومك علي طريقة تفكيرك في الانتحار والموت فهذا المستوي من التفكير لايليق بمن تكتب بهذا المستوي. ودعيني أتفق معك في رصدك للتناقضات الاجتماعية حولك والاهتمام بالمظاهر والشكليات, وان معايير الزواج يجب ألا تخضع لمعايير والديك حسب ماجاء في سطور رسالتك.
ولكن لابد ان ألفت نظرك الي ان والديك وهما يرفضان عريسا غير جاهز بالمرة, متواضع الامكانات مستقبله غير واضح, يبدو رفضهما منطقيا, وإذا كنت تستندين الي الحديث الشريف في مواصفات الزوج فإن هناك احاديث وآراء لأئمة المسلمين تضع التكافؤ بين الزوجين شرطا لصحة النكاح. وهذا لايعني أبدا أن يجبرك احد علي الزواج بمن لاترغبين لمجرد انه يمتلك الامكانات المادية والانتساب الي عائلة كبري.
وهنا لابد ان اقول لوالديك ان يوقفا هذه الزيجة ولايسيرا فيما اتجها اليه, لأنهما بذلك يدفعانك للشقاء, فالزواج أيها الآباء ـ كما تعلمون ـ كما انه سكن ورحمة فإنه حقل أشواك, يحتاج الي محبين كي يتحملوا وخزه.
وأقول ايضا لوالديك ان ضعف إمكانات شاب بهذا الخلق, دخل البيوت من أبوابها, ورفض ان يرتكب حلالا بأسلوب خاطئ تكريما لابنتكما واحتراما لاسرتها, لايستحق الاهانة او الرفض بعناد واصرار, فعظام الصغار مازالت هشة وتحتاج الي الحنان والاحتواء.
عزيزتي.. أقترح عليك ان تواجهي والديك بكل ماتحملينه في نفسك وتخبريهما برفضك الكامل للزواج بالعريس الذي اتيا به, بدون ان تربطي ذلك بالزواج بمن احببت. وافسحي للزمن والقدر مساحة, لعله يفعل ماقد لانراه ولانعلمه. فإذا تغيرت احوال هذا الشاب وكان قادرا علي الزواج بتكاليفه المجهدة ـ ايا كان مقدارها. قد يغير والداك رأيهما, وإما ان يهدأ القلب من انفعالاته ونبضاته, ويتيح للعقل مساحة اكبر تمكنك من اختيار شريك حياتك.. لاتتعجلي في قراراتك, فأنت مازلت صغيرة والحياة مليئة بالاختبارات والاشواك, واثق في أنك ستجتازينها, وسأكون حريصا علي مشاركتك فرحتك بإذن الله.
* أكتب إليك رسالتي الأخيرة لعل الله يقدر لي بها سبيلا للنجاة بعد أن بدأ العد التنازلي للنهاية. استحلفك بل وأتوسل إليك ألا تتخلي عني فقد لا تواجهني صعوبة بعدها في ايجاد طريقة للتخلص من حياتي, فلم أعد اطيق البقاء علي هذه الدنيا ولا أجد لوجودي بها قيمة, لقد أعلنت اليوم رفضي لعالم عاقبني طوال ثلاثة وعشرين عاما هي سنوات عمري علي ذنب لم اقترفه, ولم يكن لي أدني تدخل فيه, إلي أن جاءتني الفرصة الطبيعية كأي فتاة لابدأ حياة مستقلة بما شرعه الله لي من حق في الزواج, فأبي إلا أن تكون هي الاخري مكبلة بشروط قاسية وعقبات لم ينزل الله بها من سلطان. لكن قبل هذا القرار سوف أترك لك رسالة اخري وأوصي بأن تصلك موقعة بالدماء قد لاتتردد كثيرا وقتها في نشرها فتصل متأخرة فقط كنموذج صارخ لفتاة قضت أيامها في قلعة سوداء قد تبكي قراءك وتثير الرأي العام, لكنها لن تذيب ألواح الثلج تلك الكائنة في ضمائر الجناة.
أنا الابنة الكبري لأب يعمل بوظيفة مرموقة وأم علي درجة عالية من التعليم والثقافة كان لهما الفضل الأكبر فيما وصلت إليه الآن, فبغض النظر عن كرههما لانجاب البنات واعتبارهن مسئولية خطيرة منذ اليوم الأول حتي اليوم الأخير فهما ينتميان إلي مجتمع غريب يملأه الحقد والفضول فلايهتم أفراده سوي بالفضائح والاسرار والتدخل في حياة الغير. لقد بدأت مأساتي معهما منذ نحو خمس سنوات عندما شاء لي القدر أن التقي بشخص غير حياتي, فكان أول من عاملني كإنسانة لها كيان واحساس, لقد أدخل الدفء إلي حياتي وأضاء شمعة أمل صغيرة سرعان ما انطفأت عندما أدركت أنه لا يحاول الاقتراب مني ويتجنب الاعتراف لي بحبه, ولم تطل حيرتي بعدها لأعرف السبب,
لقد عرف من شقيقته وهي احدي صديقاتي بالكلية أن الفارق بيننا كبير لا يمكن تجاوزه فقرر أن يبتعد في هدوء, إنه شاب بسيط يدرس باحدي الكليات التي ليس لها مستقبل, يعيش ظروفا متواضعة يرعي والدته بعد وفاة والده وزواج اخوته الكبار, ولم يكن امامي أنا الاخري سوي الاستسلام, لكني لم استطع النسيان فعشت انتظر مصادفة تجمعني به أو لقاء, حتي جاءت البداية ليعلن كل منا للآخر عجزه عن المقاومة.
فقد اصبت في حادث ودخلت المستشفي, واصطحبته شقيقته معها في الزيارة المسائية ليوصلها نظرا لبعد المسافة وتأخر الوقت لكنه لم يكن يعرف أنه سيراني.
رأيت في عينيه يومها كل ما حاول أن يكتمه عني طوال تلك المدة, وشعر هو الآخر من دموعي بضعفي وقلة حيلتي, وهكذا بدأنا لأعيش معه أسعد أيام حياتي واكتشفت من صفاته واخلاقه ما تعجز كلماتي عن وصفه. فقد وجدته شابا متدينا علي خلق, يضع الله امام عينيه في كل أفعاله. وعدني بألا يتخلي عني وأن يبذل كل مايستطيع من أجلي, ولم تمض سوي أشهر قليلة علي تلك السعادة حتي قررنا أن تأخذ علاقتنا شكلا رسميا, لكن هيهات. فقد رفض أبي ذلك بشدة وتعمد الاهانة في رفضه حتي يكون ذهابه بلا رجعة ويبتعد عني للأبد, فكل ما يملكه لا يكاد يتعدي ثمن فستان الزفاف الذي ارتدته فلانة ابنة فلان التي هي أقل مني مالا وجمالا.
وكيف يوافق أبي علي خطبة قد تستمر عاما أو عامين لن يستطيع خلالها سوي توفير أقل ضروريات الزواج, فلا يجوز أن تتزوج ابنته إلا صاحب المال والنسب في مراسم تنال رضا الناس ولا مانع من أن تأخذ جزءا من ذاكرتهم.
لقد نسي أبي قول الرسول الكريم: إذا خطب اليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادا كبيرا لم يتذكر سوي رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. لقد صدمت بهذه الحقيقة صدمة أقعدتني الفراش ما يزيد علي شهرين خصوصا وقد تولت أمي الأمر لتعيدني إلي رشدي أو تعيد تربيتي ـ كما قالت ـ تدهورت حالتي النفسية وتساقط شعري ونقص وزني وملأت جسمي بقع غريبة, وبقيت تحت العلاج مدة طويلة, وتمكنت من الاتصال به بعد مدة ليقول لي إن أبي لديه حق فيما قاله ولو كنت مكانه لفعلت مثله, أنت تستحقين أفضل مني بكثير واعتذر لي عما سببه لي من احراج ورفض أن يكمل المشوار.
مرت بعدها الأيام بطيئة كئيبة حتي عرفت من شقيقته أنه التحق باحدي الهيئات الخاصة التي لها مستقبل أفضل, وفي الوقت نفسه باع ميراثه من والده ليسدد مصروفاتها وأصبح يدرس بالصباح ويعمل بالمساء ربما يستطيع أن يحقق شيئا يرضي به أبي. وطلب منها ألا تخبرني بهذه الخطوة حتي لا أعيش علي أمل قد لا يتحقق, لكنها لم تكتم هذا عني ولم يفرحني هذا الخبـر بقدر ما آلمني, فهذا ليس دليلا علي حب عظيم لي فقط أو علي تضحية بكل ما يملك من اجلي وانما دليل علي أمل معذب مازال يعيش عليه, لذلك قررت عدم الاستسلام أنا الاخري وأن أظل بجواره إلي النهاية ووعدته بألا اكون لاحد غيره ووعدني هو بألا يدخر جهدا في إسعادي وتوفير مستقبل لائق بي.
وانتهت مدة دراسته بعد كفاح مرير وتحدث مع ابي ثانية علي أمل ان يوافق هذه المرة خصوصا وقد شرح له تحسن ظروفه واستعداده للسفر بالخارج لكن أبي لم يرحمنا فكان رفضه هذه المرة بعناد وإصرار, وقال له أنت لو اشتغلت ليلا ونهارا عشر سنوات فلن تستطيع أن تجمع مهر إبنتي ولم تشفع لي دموعي ليدرك مدي احتياجي لهذه الموافقة.
أصابني يأس شديد جعلني أفكر في الزواج منه ووضعهم أمام الأمر الواقع وعرضت عليه اقتراحي فرفض وقال لي أنت لا تستحقين ذلك بعد كل هذا الصبر, إنك لن تخرجي من بيت أهلك إلا عروسا وسط رضا الجميع لكنك لن تكوني لي. وأخبرني بأن ظروفه قد تعقدت أكثر فلن يستطيع السفر قبل قضاء الخدمة العسكرية, وقال لقد انتهت رحلتنا عند هذا الحد فلم يعد بيدي شيئ افعله.. أتمني لك السعادة.
ولم تمر سوي أيام قليلة حتي تقدم لأبي العريس المنشود إنه إبن احد اصدقائه المقربين فوافق علي الفور فهو يمتلك الشقة المؤثثة والسيارة المناسبة والعمل المريح, كما أن والده يستطيع إقامة حفل زفاف مشرف, لقد كانت هذه المؤهلات هي الثمن فقرر ابي ان يبيعني به دون حتي ان يأخذ رأيي. وتمت الخطبة سريعا لأجد نفسي أمام شخص غريب يفتقد كل معني للرجولة, فقد ولد كما يقولون وفي فمه ملعقة ذهب, ولا أكاد أتعدي في نظره واحدة من قائمة مزدحمة بالفتيات قد أكون أنا أقلهن جمالا وروشنة, لكن الواحد لما بيفكر في الاستقرار والزواج بيدور علي الأصل لأنه هوه الأهم, هذا ما قاله لي في اول لقاء. ولن أزيد في نظره علي زوجة آلية ليس عليها سوي الطاعة والولاء, وكأن ابي اختاره بعناية ليكمل معي تلك الرسالة المتوارثة ويتأكد أني سأعيش ما تبقي من عمري في ذلك القهر الذي تربيت فيه.
قد تتعجب أن وضعا كهذا مازال موجودا في عصرنا هذا, وقد تسألني: لماذا لا اعترف لخطيبي وأشرح له حقيقة شعوري وأخبره بأني حتي لم أوافق عليه عندما تقدم لخطبتي؟! فهذا الاعتراف ليس الا فضيحة كبري ظلوا يحرصون علي عدم وقوعها سنوات. ولا أعتقد كذلك أن هذا الإعتراف يهمه كثيرا فربما يزيده إصرارا وعنادا وتماديا في تعذيبي, كما ان ابي لن يرضي من بعده إلا بمن هو في مثل وضعه ومؤهلاته أو افضل منه لذلك فلن يكون الفارق كبيرا.
سيدي لقد حدد أبي أخيرا موعد عقد القران, ذلك العقد الباطل بجميع المقاييس لتنتهي القصة أو تبدأ لا أدري. وقد بقي علي ذلك الموعد أقل من شهرين لذلك كان قراري بأن اضع انا النهاية فلن أجلس لانتظارها كما يفعل من أهلكه المرض أصبح الموت هو شفاؤه الوحيد. وأترك لك جزءا من هذه النهاية يكتبه قلمك ردا علي رسالتي هذه عسي ان تبدأ هذا الرد بكلمة ياعزيزتي أو يا ابنتي فأنا حتي لا اسمعها من اقرب الأقربين الي, حتي امي اغلقت قلبها في وجهي واتهمت مشاعري بالمراهقة لقد كانت دائما هكذا تطير فرحا عندما تري فلانا ينظر إلي في إحدي المناسبات نظرات إعجاب ساخنة وتلومني علي عدم التجاوب معه فهو حلم كل فتاة, كما أن والده من الشخصيات المرموقة, وتموت نكدا لان آخر أحبني وأراد ان يتزوجني في شرع الله ويبدأ معي حياة متواضعة نبنيها معا ونسعد بكل مراحلها راضين بما قسمه الله لنا وما أنعم به علينا.
سيدي لقد أعياني التفكير وفكرت في ان اكتب لك بعد ان استخرت الله كثيرا لتكون آخر محاولة أبذلها لإنقاذ نفسي ومساعدة إنسان بذل كل ما يستطيع من اجلي, لكن مع الاسف وقفت ظروفه المتعثرة حائلا بيني وبينه. فليس له أب ينفق علي زواجه وربما أمامه مدة طويلة لتحقيق تلك المعادلة الصعبة, وقد وصل حاله من يأس واحباط لدرجة جعلت والدته تبكي وهي تحدثني وتسألني لماذا تركته؟وتستحلفني بأن افعل اي شيء لإنقاذه.
لقد منعت حتي من انتظاره. فهم ينتظرون اليوم الأخير بفارغ الصبر. ربما كانت كلماتي مؤلمة, ولكنها لم تعبر بعد عن الواقع. صدقني أنا لست طامعة في شيء ولو معي المصباح السحري لما طلبت منه أكثر من العيش بسلام مع من أحب. لكن هذا لن يحدث قبل توافر تلك الشروط القاسية فهل تقرر مساعدتي؟
ربما يكون توفيرها بشكل مؤقت كاف جدا. حتي يتبدل ذلك اليوم الأسود الذي سأزف فيه إلي ذلك الصنم بيوم آخر من أيام الجنة. تخيل أنك تشاركني فرحتي في ذلك اليوم.
* ابنتي العزيزة: ها أنا أبدأ بما أحببت, وأضيف ان لغتك في التعبير عن نفسك وعن مشاعرك ومجتمعك أذهلتني, ففي مثل عمرك تكون الأفكار مشوشة او عاجزة عن الوصول للآخرين, ولكنك نجحت في التعبير عن القلعة السوداء بداخلك وليست تلك التي تعيشين فيها.
تلك القلعة التي غرسها فيك والداك, فجعلاك تشعرين بأنك تدفعين ثمن انك أنثي, وهذا فكر غريب وشاذ وجاهلي لايليق بأب يعمل في وظيفة مرموقة وأم علي درجة عالية من التعليم والثقافة, ولا أدري أي علو وأي تعليم وأي ثقافة تلك التي تؤدي الي غرس مثل هذه المفاهيم في قلوب صغيرة.
صغيرتي.. أقدر مشاعرك, وأقدر غضبك, كما أتفهم اندفاعك, ولكن اسمحي لي ـ قبل ان اناقش ماجاء في رسالتك وأتوجه الي والديك ـ ان الومك علي طريقة تفكيرك في الانتحار والموت فهذا المستوي من التفكير لايليق بمن تكتب بهذا المستوي. ودعيني أتفق معك في رصدك للتناقضات الاجتماعية حولك والاهتمام بالمظاهر والشكليات, وان معايير الزواج يجب ألا تخضع لمعايير والديك حسب ماجاء في سطور رسالتك.
ولكن لابد ان ألفت نظرك الي ان والديك وهما يرفضان عريسا غير جاهز بالمرة, متواضع الامكانات مستقبله غير واضح, يبدو رفضهما منطقيا, وإذا كنت تستندين الي الحديث الشريف في مواصفات الزوج فإن هناك احاديث وآراء لأئمة المسلمين تضع التكافؤ بين الزوجين شرطا لصحة النكاح. وهذا لايعني أبدا أن يجبرك احد علي الزواج بمن لاترغبين لمجرد انه يمتلك الامكانات المادية والانتساب الي عائلة كبري.
وهنا لابد ان اقول لوالديك ان يوقفا هذه الزيجة ولايسيرا فيما اتجها اليه, لأنهما بذلك يدفعانك للشقاء, فالزواج أيها الآباء ـ كما تعلمون ـ كما انه سكن ورحمة فإنه حقل أشواك, يحتاج الي محبين كي يتحملوا وخزه.
وأقول ايضا لوالديك ان ضعف إمكانات شاب بهذا الخلق, دخل البيوت من أبوابها, ورفض ان يرتكب حلالا بأسلوب خاطئ تكريما لابنتكما واحتراما لاسرتها, لايستحق الاهانة او الرفض بعناد واصرار, فعظام الصغار مازالت هشة وتحتاج الي الحنان والاحتواء.
عزيزتي.. أقترح عليك ان تواجهي والديك بكل ماتحملينه في نفسك وتخبريهما برفضك الكامل للزواج بالعريس الذي اتيا به, بدون ان تربطي ذلك بالزواج بمن احببت. وافسحي للزمن والقدر مساحة, لعله يفعل ماقد لانراه ولانعلمه. فإذا تغيرت احوال هذا الشاب وكان قادرا علي الزواج بتكاليفه المجهدة ـ ايا كان مقدارها. قد يغير والداك رأيهما, وإما ان يهدأ القلب من انفعالاته ونبضاته, ويتيح للعقل مساحة اكبر تمكنك من اختيار شريك حياتك.. لاتتعجلي في قراراتك, فأنت مازلت صغيرة والحياة مليئة بالاختبارات والاشواك, واثق في أنك ستجتازينها, وسأكون حريصا علي مشاركتك فرحتك بإذن الله.