روحان حللنا بدنا
هزتني من الأعماق رسالة منحة المحنة التي تحدث فيها كاتبها الدبلوماسي بالخير كل الخير عن والده رحمه الله, وما خلفته محنة وفاته من منح معنوية,, ومنظومة من القيم الدينية والاخلاقية رباه عليها.. وإذا كان الشجي يبعث الشجي, فإن رسالة منحة المحنة لم تذكرني بالمرحومة زوجتي, لأنها في حياتها ومماتها هي الوجود الحي في كياني, وحاضرة في عقلي ووجداني, لم يغب طيفها عني لحظة واحدة أوطرفة عين, منذ أن تحول البيت ـ بعد رحيلها من مسكن تشعر فيه النفس بالسكينة, إلي منزل ـ من نزل تضم النون ـ أي فندق أنزل فيه, ومتحف يجمع صورها وأشياءها فلا يخلو حائط وجدار أو ركن بالمنزل من صورها الفوتوغرافية: صور حفل خطوبتنا, وصور حفل زفافنا, وصور المناسبات والرحلات, وأعياد ميلادها وأعياد زواجنا, عيدا بعد عيد, وعاما بعد عام, علي مدي نصف قرن من الزمان إلا قليلا, هي عمر زواجنا, تراها ـ بعد وفاتها ـ معلقة علي حوائط وجدران البيت, أو تحتل ركنا من أركانه فوق منضدة والي جوارها باقة ورد. ودولاب تحف تجمع علي رفوفه الزجاجية أشياءها: حليها ومجوهراتها ودبلة الخطوبة تحمل اسمي, وساعة يدها الذهبية الثمينة, وحقيبة يدها, ومناديلها وأدوات مكياجها وأمشاطها, وزجاجة عطرها. وبطاقة تحقيق شخصيتها, وبطاقة عضويتها بجمعية الهلال الأحمر, وبطاقة عضوية في نادي المحروسة بمدينة الاسكندرية, وعدد جريدة الأهرام الذي جاء فيه نعيها, وما تخلف بعد رحيلها من أدوية علاجها, وكذب موتها حكمة قديمة تقول كل شيء يولد صغيرا ثم يكبر, إلا الحزن يولد كبيرا ثم يصغر.. فحزني علي فراقها الأبدي ولد كبيرا, ويكبر مع الأيام دون أن يشيخ أو يتحلل. كنا روحان حللنا بدنا كما يقول المتصوفة, وكانت ـ رحمها الله ـ كالشمعة المضيئة في المكان المقدس, والكل الذي يحتويني, ومركز الدائرة ضاقت أو اتسعت, وفيها ومعها يزيد مجموع1+1 علي الاثنين, أجادت الغرس وغنمت أطيب الثمرات علما وخلقا وتدينا واستقامة, وكان منهم الطبيب والطبيبة والمهندس, ولم تسيء إلي أحد, لماحة تفهمك قبل أن تتكلم, وتعرف ماتريد قبل أن تريد, ومتي تتكلم, ومتي ينوب الصمت عن الكلام, وشكها منهجي مؤقت, ويقينها واضح لاريب فيه, جميلة كالوردة بلا أشواك تضحك دون أن نضحك, وفيها من الجاذبية مافي جزيرة المغناطيس التي تحدثت عنها الف ليلة وليلة إذا اقتربت منها السفن سحبت مساميرها التي تربط بين أجزائها, فتصير ألواحا خشبية مفككة تجالسها وتستمع اليها وتتحدث معها, فيعمل قانون تداعي المعاني عمله ويستدعي إلي الذاكرة أنطونيو وقيصر حين وقعا في هوي كليوباترا قبل عشرين قرنا من الزمان, واختلفا حول حقيقة جمال الملكة وسر جاذبيتها, هل هو جمال الوجه والجسم والقوام, أم جمال العقل وفتنة الأنوثة الطاغية, أم صفاء الروح وحدة الذكاء, أم سحر المنطق وقوة الشخصية, وتعجب كيف استحال ذلك كله إلي رفات وتراب في تراب!!إنها الزوجة والحبيبة والصديقة ورفيقة الدرب, انتقلت إلي رحاب الله قبل أربع سنوات وأخذت معها الشمس والقمر وكل مصادر الاضاءة والحياة, وكل مفاتيح السعادة والهناء, وتركتني في عتمة شاملة, أعاني متاعب الشيخوخة وسجون الوقت. ضربها مرض القلب قبل وفاتها بخمس سنوات, وطفت بها علي كبار أطباء القلب, وكلما سألتها عن حالها تشير إلي صدرها وتقول الدينامو تعبان وأراها في عامها الأخير كالشمعة تنطفيء بالتدريج, وذات صباح أسود كئيب, وساعة الحائط تدق السابعة تلاشت الشمعة ثم انطفأت, مالت برأسها علي كتفي كسنبلة قمح مليئة تميل علي ساقها, وفي هدوء انتقلت الروح إلي خالقها, وماتت, ماتت كما يموت الأبطال واقفين, وأصبحت طيفا يروح وطيفا يجيء وطيفا في القلب قد وقر, وكانت ملء السمع والبصر علي جبينها يطلع القمر, فبأي قلب أحزن لفراقها والقلب من حزني عليها انفطر وبأي اللغات أبكي عليها ورحيلها ألغي جميع اللغات! فمن بعدها يؤنس وحدتي, ويرد غربتي, ويفرج كربتي, ومن بعدها يسدد خطواتي, ويغفر لي زلاتي, ويشاركني اهتماماتي, ومن غيرها أقرأ عليها صفحاتي, فتشير علي بالحذف أو الإضافة أو باستبدال كلمة بأخري, وتزهو وتنتشي حين تقرأ اسمي وتري صورتي علي رأس مقال لي في صحيفة أو مجلة, أو تقرأ اسمي مطبوعا علي كتاب مدرس, ومن سواها يدير حالي ويحفظ لي مالي وأموالي, وتعد لي طعامي وفراشي, وترتب أوراقي وخزانة كتبي وادراج مكتبي ودولاب ملابسي, وتعد لي ملابس الخروج وتختار رباط العنق, وتودعني صباح كل يوم علي باب البيت وتترقب عودتي, ومن غيرها يجمع الأبناء والزوجات والأحفاد مساء الخميس الأول من كل شهر حول مائدة العشاء, وتقدم لهم بيدها السخية مايحبون من طعام وفطائر وحلوي من صنع يديها, وتوزع ابتسامتها الحانية علي جميعهم بالتساوي, والشاطر منهم هو الذي يسبق غيره بقوله تسلم إيدك ياماما أو ياتيته. أزور قبرها مرة كل شهر حاملا إليها باقة من الورود والزهور التي تحبها, وشمعة أشعلها فوق قبرها, وأدق بيدي باب القبر عسي أن تقوم وينفتح, وحين يدركني اليأس, أحكي لرفاتها أحداث الشهر يوما بيوم, ماذا أكلت وقرأت وكتبت, ومن في البيت استقبلت, وإلي أين خرجت ومتي عدت, وفيما أفكر وفكرت, وأذكرها بأيامنا الحلوة, واحتفالنا الأسبوعي مساء كل أحد, وأنقل اليها أخبار الأبناء والاحفاد, وحين تصل الشمعة الموقدة فوق قبرها إلي نهايتها وتنطفيء, أحاول أن أخلع نفسي من أمام قبرها فلا أنخلع, فأرفع وجهي إلي السماء معاتبا ربي: لماذا يارب أخدتها مني لماذا أخذتها, ولماذا لم أكن أنا الذي سبقتها إلي هنا؟! وكل زيارة مني إلي قبرها, تستدعي صورة كانت مرسومة بيد فنان في أحد الأديرة بمدينة أفنيون, تمثل امرأة ميتة ملفوفة باكفانها, وقد صففت شعرها, والدود يقرض أمعاءها وتحت الصورة جاءت هذه السطور: كنت ذات يوم أجمل النساء وجعلني الموت علي هذه الحال وكان جسمي جميلا بالغ النضرة والنعومة أما الآن فقد تحول إلي رفات كنت أعيش في قصر منيف وها أنا هنا أسكن هذا النعش الصغير وكانت غرفتي محلاة بالستائر الحريرية المطرزة بالورود والآن تحيط قبري خيوط العنكبوت حليم فريد تادرس عضو الجمعية الفلسفية المصرية * سيدي.. لاتتخيل كم أسعدتني رسالتك, رغم الألم النازف من كل حرف بها.. كلماتك الموجوعة أذابت الثلوج من علي مشاعري, بعد أن استكانت أسفل صراعات الحياة, شكوي البشر, وغياب هذه اللغة الرقيقة الراقية من قاموسنا اليومي. رسالتك جاءتني ـ سيدي ـ وأنا أسأل نفسي كل أسبوع, ماذا أفعل أمام رسائل الأصدقاء, وخاصة المتزوجين, البعض يشكو البعض, تعطلت لغة الكلام, وعلا صوت النفور والشجار, فغابت تلك العلاقة الإنسانية الرائعة, التي تجعل من1+1=1. واحد يجمع إثنين عاشقين, تجمعهما المودة والرحمة, فتسمو نفساهما فوق صغائر الحياة, ليستمتعا بما رزقهما الله من خير وسعادة, ويواجها معا ما ابتلاهما به الله بنفس راضية وبتحد لكل صعاب الحياة. شمعتك المضيئة ـ سيدي ـ لم تنطفيء, فضوؤها مازال مشعا يملأ روحك, فسمت بك وأفاضت علينا بكلماتك المنيرة. زهرة برحت مكانها ولكنها قبل الرحيل روت بذورها بمحبتها, فأنبتت الطبيبة والطبيب والمهندس والزوج العاشق الذي يزور قبرها كل شهر حاملا ورودها التي تحب, حاكيا له تفاصيل أيامكم.. إنه الحضور المكثف في وقت تتلاقي الأجساد والنفوس, وتعيش تحت سقف واحد, في غياب متصل, بلا محبة ولامودة, بلا تواصل أو تناغم. سيدي.. ينطبق عليك قول الشاعر الفيلسوف أبوالعلاء المعري: ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد ولكنك تعرف أيضا ـ أكثر مني ـ أن رب موت كالحياة, وأن أجمل شيء يبقي بعد الرحيل, هي تلك الذكري التي تنير لنا الدرب, والذكري هي ناتج استثمار العمر, بالعمل والمحبة, بالتسامح والمغفرة, بالتفاني لإسعاد الآخرين. لأن الحياة مهما طالت قصيرة: وما الدنيا بباقية لحي وما حي علي الدنيا بباق سيدي.. فارقتك شريكة العمر منذ سنوات, ولكن حزن فراقها ـ علي عكس ماهو شائع ـ يزداد يوما بعد يوم, فمثل تلك الزهرة لايعوض, والفراق صعب ومؤلم, ولو كان للفراق صورة نراها, لراعت القلوب وهدت الجبال, ولكن رحمة الله بعباده أكبر من أي حزن, ولأن الشعر بالشعر يذكر, أعيد عليك ما قاله لبيد بن ربيعة: فلاجزع إن فرق الدهر بيننا فكل امريء يوما به الدهر فاجع.. سيدي.. نشرت رسالتك, ليس فقط لما في ذلك من تكريم لزوجة وأم تستحق التكريم, أو تقدير لمشاعر نبيلة مثل مشاعرك, ولكن ـ إضافة لكل ذلك ـ رأيت فيها, دروسا بليغة لكل زوجين, وفيها النموذج والصورة التي يجب أن يكون عليهما الزواج, تجربة حية من تاريخ مازال طازجا, للحب والتفاني والخلود.. فشكرا لك ودعواتنا للسيدة الراحلة زوجتك, وبشكل شخصي أدعوك أن تستمر في كتاباتك للصحف والمجلات, فأنا واحد من الذين كانوا يتابعون ماتكتبه منذ سنوات صباي, وافتقدتها كثيرا, وتأكد أن زوجتك الراحلة ستسعد هي الأخري بما ستكتبه كما كانت تفعل في حياتها.. وإلي لقاء بإذن الله. |
عدل سابقا من قبل جنة في الخميس مايو 15, 2008 8:59 pm عدل 1 مرات