كان من الطبيعي أن تصلك رسالتي هذه منذ ما يقرب من خمسة شهور, وبالتحديد منذ نشر رسالة ستر الله والتي حكي فيها رجل أنه كان قناص نساء, وانه التقي بفريسته في إحدي المناسبات, وتبادلا الهواتف وبعد معاناة ووقت طويل أقنعها بالذهاب اليه في شقته, وبينما هي في الطريق اليه بسيارتها وقع لها حادث وأصيبت إصابات جسيمة ونقلت إلي المستشفي, وعندما ذهب اليها, اكتشف من الأطباء بعد أخذ عينة دم انها مصابة بالإيدز, وأحس أنها رسالة من الله, فتاب اليه وأعرض عما كان يفعل, وحاول التكفير عن خطاياه في حقوق الآخرين.
وجاء ردك عليه مطمئنا لكل من تاب إلي الله, ومحذرا لكل من غرته الدنيا فأوغل في المعصية متجاهلا أو غافلا ان عين الله لاتنام, ولأنه كاتب الرسالة فقد اهتممت به, وتجاهلت أو أغفلت تلك السيدة الأخري, الضحية, أو الجاني, فلم تقل لها أو عنها شيئا, وجاءت بعد ذلك تعليقات السادة القراء, لتؤكد أن الجميع قد نام واستراح, لأنها لاقت جزاءها ودفعت ثمن انجرافها نحو الخطيئة, وكأنه من المستبعد ان تكون هي الأخري ضحية له ولغيره من الرجال, وانها قد تكون تابت الي الله راجية أن يتوب عليها ويغفر لها.
سيدي... تتساءل: لماذا أكتب إليك هذا, ولماذا كان يجب أن تصلك رسالتي منذ شهور بعيدة, ولماذا تأخرت في الكتابة إليك؟
من المحتمل ياسيدي أن أكون أنا تلك المرأة الملعونة التي انتقم منها الله بحادث سيارة مفزع, وقبل ان تفيق من مصيبتها اكتشفت انها مصابة بالإيدز... فالقصة التي حكاها هذا الرجل تتشابه كثيرا مع ما حدث لي, مع بعض الاختلافات والتي قد تكون مقصودة منه أو منك لإخفاء ملامح الشخصية, خاصة أنك أخفيت وظيفته وما قد يشير إلي محل إقامته.
ليس مهما اذا كنت أنا هي تلك المرأة أم لا.. ولكني وجه آخر للحقيقة.. وجه آخر للمأساة, للحلم والضياع, للانحراف والتوبة.
دعني أبدأ لك من البداية, لعلك وقراءك تجدون في قصتي ما يستحق التأمل والتماس الأعذار للآخرين حتي لو كانوا من الخطائين.
نشأت مثل كثير من الفتيات في أسرة طيبة, فتاة واحدة مع ولدين.. والداي كانا يعملان في مجال التدريس.. عشنا معا سنوات في الخليج, كانت من أحلي سنوات العمر, وأن كان بها ما عكر صفو حياتي وحياة أسرتي لعدة شهور, عندما تعرضت لحادث أدخلني غرفة العمليات لأجري جراحة خطيرة وكان الله لطيفا بي, فشفيت وأكملت أيامي حتي حصلت علي الثانوية العامة, فعدت الي مصر وحدي لأعيش مع جدتي والتحق بالجامعة.
لك أن تتخيل فتاة صغيرة عمرها18 عاما, عاشت سنوات عمرها في مدينة هادئة, في أحضان أسرتها, لاتري من الحياة إلا ما يسر ويبهج, تجد نفسها وحيدة في مدينة صاخبة مليئة بالمتناقضات.. حياة أخري غير التي عشتها.. لا أحد يقول لي ما الصواب وما الخطأ.. نعم معي نقود ليست مع زميلاتي, لي سيارتي الخاصة, لا أحد يقول لي: افعلي ولا تفعلي.. صدقني كنت أعود الي جدتي باكية, مفزوعة مما أراه.. أشكو لأمي وأطالبها بالعودة, فتقول لي: انت كبيرة, بكرة تتعودي, احنا واثقين فيك, وبعدين اخواتك لازم ياخدو الثانوية من هنا... هنيجي في اجازة نصف السنة.
تقوقعت داخل نفسي, وانعزلت عن زملائي وزميلاتي, وتحملت طويلا غمزاتهم وسخريتهم مني, حتي بدأت أندمج تدريجيا معهم في عامي الدراسي الثاني.. وبدأت أري ما لم أكن أراه أو أعرفه... تعلمت السهر وشرب السجائر, ودخل قاموسي كلمات لم أكن أعرفها أو أقبلها, مثل صديقي, وتظبيط وغيرهما من الكلمات التي تعكس ثقافة انفلات وفوضي وشباب لم يجد من يربيه.
تسألني: أين جدتي؟ أجيبك أنها زهقت مني وتعبت من الكلام معي, واستعانت بوالدي, فكنت أصم أذني عن صراخهما في الهاتف وتهديدهما المتكرر, سحبوا موبايلي, ومنعتني جدتي من الخروج ليلا, فكنت أغافلها حتي تنام ثم أسرق مفتاح الشقة وأهرب.
لم أكن سعيدة بما أفعل, ولم أكن أراه صوابا, ولكن شيئا ما بداخلي كان يحركني ويدفعني لتبرير ما أفعله بأنه عقاب لوالدي لأنهما اختارا الفلوس علي حساب الاهتمام بي.
سيدي... أرجو ألا يجنح تفكيرك بي, فعلي الرغم من كل ما فعلته, إلا أن هناك حدودا كنت أقف عندها... مغامرات محدودة وتصرفات وتجمعات شبابية حول الرقص وتدخين المخدرات ـ أحيانا ـ والسفر خارج حدود العاصمة في أي وقت ـ كل واحد له حكاية ومأساة, ما بين سفر الآباء, طلاقهم, شجارهم, أو انشغالهم بعملهم علي حساب الأبناء.. كل واحد منهم يعتقد أنه وفر لابنه كل شيء, لمجرد انه يغدق عليه بالمال.
لو سألتنا جميعا لقلنا بعلو صوتنا, نحن لسنا سعداء... كنا في حاجة إلي حنان أهالينا وتفهمهم ورقابتهم وحتي قسوتهم ولكننا لم نجد.
تفاصيل كثيرة, لا أريد أن أبعد بها عن القصة الرئيسية, عن ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه اني مريضة بالإيدز وأنا في طريقي لارتكاب المعصية الكبري.
في صيف عام2003 عادت أسرتي من الخارج وكنت وقتها قد أنهيت عامي الدراسي الأخير بالجامعة, عادوا ومعهم عريس, ابن أحد أصدقائهم, جاوز الثلاثين بقليل, وجمع ثروة لا بأس بها, وعاد الي مصر ليفتتح شركة في مجال التصدير والاستيراد, رأي فيه والداي عريسا مناسبا يستر عارهما قبل أن يشيع بين الناس, لم يستمعا الي رفضي, أو رغبتي في منحنا فرصة للتعارف أو التفاهم.. فهما مرتبطان بموعد للعودة, والعريس جاهز, شقته معدة حسب مزاجه وذوقه, ولا ينقصها إلا الدبيحة, أقصد العروس التي هي أنا.
هو كان مثلهما جافا, سعيدا بجمالي, ولم ينظر قط الي تفكيري أو احتياجي.. وخلال أسابيع قليلة انتهي كل شيء, أصبحت زوجته وسجينته.
عشت أسوأ أيام عمري مع رجل قاس, لم يفكر يوما في احتياجاتي النفسية قبل الجسدية... يسخر من كل شيء أقوله أو أفعله, ليس علي سوي تنفيذ رغباته لإرضاء رجولته المزعومة.. حرمني من كل الأصدقاء, حتي تليفوني كان مستباحا منه.
ذات يوم تجرأت ونحن في لحظة خاصة, وقلت له لماذا لا تفكر في إسعادي, فاستدرجني في الكلام, حتي قلت له اني غير مستمتعة معه وانه يظلمني ويحرمني حقوقي, فقال لي انت امرأة ساقطة وباردة وسأعيد تربيتك من جديد, وانهال علي ضربا وسبا, حتي تورم وجهي وجسدي.. وكانت هذه هي بداية انتهاء آدميتي.. فقد تفرغ زوجي لتدميري, لسحق أي إحساس بأنوثتي.. كان اليوم الذي يمر بدون ضرب لا يحسب من عمري.. كنت أسلمه جسدا ميتا, أذهب بروحي الي عالم آخر, أدعو فيه ربي أن يعفو عني من هذا السجن وأعاتب والدي بل ألومهما علي ما فعلا بي, سامحهما الله.
لن يغيب عن خيالك, اني هربت مرات الي بيت جدتي, والي الشارع, بل الي قسم الشرطة, ولكنه كان يعيدني, لاني وحيدة بلا سند, وأبي كان يلومني ويسمع له ولا يستمع لي, بل يحملني كل المسئولية عن هذه العلاقة الفاشلة البائسة.
عامان من هذا العذاب حتي انفصلنا, حصلت علي الطلاق بعد ان حررت له محضرا في قسم الشرطة بعد ان شج رأسي في إحدي غزواته, فاستجاب لي بعد ان تنازلت له عن كل شيء, ولم يستطع ابي ان يشارك في طلاقي لأنه كان مشغولا شويتين!
سيدي.. كان لابد أن أحكي لك هذا التاريخ لتفهم ـ فقط تفهم ولا تلتمس الأعذار ـ ما الذي جعلني أذهب يوما وراء كلام رجل التقيته في احدي المناسبات وأنا أعرف أنه قناص ومخادع. لقد خرجت من هذه التجربة بقايا امرأة, وبقايا إنسان.. ذهبت إلي طبيب نفسي, نجح في تهريبي من نفسي إلي النوم بالمهدئات, ومن اكتئاب مزمن إلي اكتئاب متقطع.. نصحني بالخروج إلي الحياة, فخرجت, وعدت إلي السهر وإلي تجمعات البشر, ألملم صورة الأنثي المحطمة من أفواه الذئاب, فأرضي قليلا.
إلي أن جاء هذا اليوم الذي التقيت فيه صاحب رسالة ستر الله أو من شابهه.. فعل مثلما فعل غيره, اهتم بي وطاردني بالكلمات, ولكنه كان خبيرا أكثر من غيره, فلم يهرب من سخريتي, ولم ييأس من نفوري.. فرض نفسه علي تفاصيل حياتي, اهتم بأنفاسي وأوجاعي, بدأ في ترميم روحي, ثم بدأ يشكل إحساسي بأنوثتي مرة أخري.. أشعرني بأنه غير منجذب إلي أنوثتي, بقدر انجذابه إلي تفكيري واحترامي.
امرأة وحيدة, تعرضت لكل أنواع العذاب وهي في أحلي سنوات عمرها, كل شئ فيها مهدر ومهان, بلا ناصح أو أمين عليها, ماذا يمكنها أن تفعل مع رجل يعدها بما لم تر؟
أنا وغضبي والشيطان معا كل ليلة, كان من السهل عليه أن يقنعني بالذهاب إليه مبررا ذلك لي, بأن ما فعله زوجي معي هو الحرام والاغتصاب بعينه, فأغمضت عيني وقررت الذهاب إليه.. وأنا في طريقي إليه كان صوتا ما بداخلي يهتف بي: عودي, لاترتكبي هذا الإثم.. إذا كان يريدك فليتزوجك.. لم أدر بنفسي بعد ذلك إلا في المستشفي, مصابة بكسور مضاعفة في العمود الفقري والحوض.. واكتشافي المفزع لإصابتي بفيروس الإيدز.
من أين أتاني هذا الفيروس اللعين؟ سؤال طرحته علي نفسي وأنا أصرخ أمام والدي اللذين تكرما علي وآتيا فورا من الخارج.. أقسم بالله انه لم يمسسني بشر غير زوجي..
لا أريد أن أستعيد تلك التفاصيل, لقد مررت بتجربة لايمكن وصفها وكم كانت أليمة لروحي قبل جسدي؟
سيدي.. لم أكتب إليك لأدافع عن نفسي, فقد نلت ما كتبه الله لي, وأنا راضية بقدره وابتلائه وقد أعانني عليه.. ولكن هذه هي الحقيقة التي وصلنا إليها بعد سفري إلي الخارج, فأنا حاملة لفيروس الإيدز بنقل الدم منذ إجرائي الجراحة في تلك الدولة الخليجية.. أحمله منذ سنوات ولم أشعر به, واتخذ والداي إجراءات قانونية تجاه المستشفي ولم يحسم الأمر حتي الآن, وإن كان هذا لايهمني.
سيدي.. قضيت عاما كاملا خارج مصر, وهو عام يعادل كل أعوام عمري.. لقد عرفت الله أخيرا, عرفت جمالا وتذوقت لذة لايعرفها إلا من ذاقها.. تعلمت كيف أناجيه وأطلب وصله بعد أن طلبت عفوه ومغفرته.. سامحت كل من آذاني.. عرف أبي وأمي كم كان خطؤهما فادحا, فليس هناك أبقي من حماية الأبناء ورعايتهم, وقد يكون ماحدث لي منجاة لشقيقي.. لا يؤلمني الآن إلا بكاء والدي الذي لاينقطع.
عدت منذ عامين, وأكرمني الله بالحج بتأشيرة من البلد الأوروبي, وأنا الآن سالمة لا أعاني إلا من آثار بسيطة في الحركة.. أواصل دراستي في الشريعة الإسلامية.. لايفزعني الموت, بل أنتظره كل يوم أملا في رؤية من أحب.
سيدي.. نادمة أنا علي سنوات عمري التي قضيتها في ظلام, ولكني سعيدة اني استعدت بصيرتي في شدة البلاء. فاغفرلي إطالتي, وربما أردت شيئا بالكتابة إليك, فانتهيت إلي شئ آخر.. بدأت راغبة في رفع ظلم ألم بي, وانتهيت إلي حالة من الرضا أدعو الله أن يديمها علي. فادعو لي.. وليغفر لنا الله جميعا.
** سيدتي.. فكرت طويلا ألا أعلق علي رسالتك.. ففيها مايكفي, في ألمها نورها, في عتابها محبة, وفي حواري جملها تجسيد لوجع يسكن واقعنا نراه كل يوم ونغمض عيوننا, وكأن الخنجر ليس في قلوبنا, والدم النازف ليس دمنا.
لايهم كثيرا, إذا كنت تلك المرأة الغائبة في قصة ستر الله, فستر الله ممتد إلي كل القصص والحكايات, المنشور منها والمختبئ في النفوس.
ستر الله أوسع من خطايانا واعترافاتنا, لذا فليس مهما إذا كنت هي أم امرأة أخري سترها الله وأنار بصيرتها وطهرها بوجعها.
أي ألم هذا الذي عايشته وواجهته ــ ياصغيرة ــ وهل يكون درسا للذين ينهزمون في أول مواجهة, أو ييأسون من رحمة الله مع أول ابتلاء!
صغيرة كنت في مواجهة الحياة, في مواجهة قسوة القاهرة التي كثيرا ما تفقد قلبها وتقسو علي الفقراء والغرباء والصبايا والحالمين. تلك القسوة التي واجهتك بعودك الأخضر وتجربتك المحدودة.. لا أعرف كيف يأمن أب أو تنام أم بعيدة عن ابنتها الصغيرة أو ابنها الشاب في مثل هذا الزمان الصعب, هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الذئاب علي الحملان؟
تأمين مستقبلهم شعار يرفعه الآباء مبررين غيابهم بعيدا, وكأن السعادة في المال, لايعرفون أن الاستثمار الحقيقي في الأبناء, بغرس الأخلاق, بحضن دافئ, بهذا الأمان الذي يحتاجه الابن في سني عمره الصعبة ولايستطيع شراء بعض منه بأموال الدنيا.
أي منطق هذا الذي يدفع بأبوين إلي تزويج ابنتهما بمن لاترغب ولاتعرف, حتي يهنأ بالهما, ملقيان بالعبء والمسئولية علي رجل لم تختبر رجولته ولا إنسانيته؟
أهكذا يفعل المؤتمن؟ نعم نحن مؤتمنون علي أبنائنا, وسنساءل أمام الله علي تلك الأمانة وماذا فعلنا بها ولها؟.
سيدتي.. لا أريد أن أخوض ــ مثلك ــ في الحادث الكاشف, ولا في الذئب التائب, ولا في انتقام الله الواضح وحكمته, فمع شدة الإيلام تبدو الرحمة والمغفرة, فمن يلحق بالتوبة قبل فوات الأوان؟
أعرف جيدا ما حدث لك في تلك الدولة الخليجية, فما أصابك, أصاب زميلا لي وزوجته منذ سنوات بعيدة ــ رحمهما الله وغفر لهما ولنا ــ وأصيبا بالفيروس ولم يكونا حاملين له فقط مثلك, ومن المؤكد انك تعرفين الآن أن هناك بعض العلاجات الناجحة لمثل حالتك, وانك قد تعيشين طويلا ــ أمد الله في عمرك وبارك لك فيه ــ فواصلي سيرك نحو العلم والحقيقة, نفعك الله به ونفعنا, ولا أملك أمامك إلا طلب الدعاء منك لي ولأصدقاء بريد الجمعة وإلي لقاء بإذن الله.
وجاء ردك عليه مطمئنا لكل من تاب إلي الله, ومحذرا لكل من غرته الدنيا فأوغل في المعصية متجاهلا أو غافلا ان عين الله لاتنام, ولأنه كاتب الرسالة فقد اهتممت به, وتجاهلت أو أغفلت تلك السيدة الأخري, الضحية, أو الجاني, فلم تقل لها أو عنها شيئا, وجاءت بعد ذلك تعليقات السادة القراء, لتؤكد أن الجميع قد نام واستراح, لأنها لاقت جزاءها ودفعت ثمن انجرافها نحو الخطيئة, وكأنه من المستبعد ان تكون هي الأخري ضحية له ولغيره من الرجال, وانها قد تكون تابت الي الله راجية أن يتوب عليها ويغفر لها.
سيدي... تتساءل: لماذا أكتب إليك هذا, ولماذا كان يجب أن تصلك رسالتي منذ شهور بعيدة, ولماذا تأخرت في الكتابة إليك؟
من المحتمل ياسيدي أن أكون أنا تلك المرأة الملعونة التي انتقم منها الله بحادث سيارة مفزع, وقبل ان تفيق من مصيبتها اكتشفت انها مصابة بالإيدز... فالقصة التي حكاها هذا الرجل تتشابه كثيرا مع ما حدث لي, مع بعض الاختلافات والتي قد تكون مقصودة منه أو منك لإخفاء ملامح الشخصية, خاصة أنك أخفيت وظيفته وما قد يشير إلي محل إقامته.
ليس مهما اذا كنت أنا هي تلك المرأة أم لا.. ولكني وجه آخر للحقيقة.. وجه آخر للمأساة, للحلم والضياع, للانحراف والتوبة.
دعني أبدأ لك من البداية, لعلك وقراءك تجدون في قصتي ما يستحق التأمل والتماس الأعذار للآخرين حتي لو كانوا من الخطائين.
نشأت مثل كثير من الفتيات في أسرة طيبة, فتاة واحدة مع ولدين.. والداي كانا يعملان في مجال التدريس.. عشنا معا سنوات في الخليج, كانت من أحلي سنوات العمر, وأن كان بها ما عكر صفو حياتي وحياة أسرتي لعدة شهور, عندما تعرضت لحادث أدخلني غرفة العمليات لأجري جراحة خطيرة وكان الله لطيفا بي, فشفيت وأكملت أيامي حتي حصلت علي الثانوية العامة, فعدت الي مصر وحدي لأعيش مع جدتي والتحق بالجامعة.
لك أن تتخيل فتاة صغيرة عمرها18 عاما, عاشت سنوات عمرها في مدينة هادئة, في أحضان أسرتها, لاتري من الحياة إلا ما يسر ويبهج, تجد نفسها وحيدة في مدينة صاخبة مليئة بالمتناقضات.. حياة أخري غير التي عشتها.. لا أحد يقول لي ما الصواب وما الخطأ.. نعم معي نقود ليست مع زميلاتي, لي سيارتي الخاصة, لا أحد يقول لي: افعلي ولا تفعلي.. صدقني كنت أعود الي جدتي باكية, مفزوعة مما أراه.. أشكو لأمي وأطالبها بالعودة, فتقول لي: انت كبيرة, بكرة تتعودي, احنا واثقين فيك, وبعدين اخواتك لازم ياخدو الثانوية من هنا... هنيجي في اجازة نصف السنة.
تقوقعت داخل نفسي, وانعزلت عن زملائي وزميلاتي, وتحملت طويلا غمزاتهم وسخريتهم مني, حتي بدأت أندمج تدريجيا معهم في عامي الدراسي الثاني.. وبدأت أري ما لم أكن أراه أو أعرفه... تعلمت السهر وشرب السجائر, ودخل قاموسي كلمات لم أكن أعرفها أو أقبلها, مثل صديقي, وتظبيط وغيرهما من الكلمات التي تعكس ثقافة انفلات وفوضي وشباب لم يجد من يربيه.
تسألني: أين جدتي؟ أجيبك أنها زهقت مني وتعبت من الكلام معي, واستعانت بوالدي, فكنت أصم أذني عن صراخهما في الهاتف وتهديدهما المتكرر, سحبوا موبايلي, ومنعتني جدتي من الخروج ليلا, فكنت أغافلها حتي تنام ثم أسرق مفتاح الشقة وأهرب.
لم أكن سعيدة بما أفعل, ولم أكن أراه صوابا, ولكن شيئا ما بداخلي كان يحركني ويدفعني لتبرير ما أفعله بأنه عقاب لوالدي لأنهما اختارا الفلوس علي حساب الاهتمام بي.
سيدي... أرجو ألا يجنح تفكيرك بي, فعلي الرغم من كل ما فعلته, إلا أن هناك حدودا كنت أقف عندها... مغامرات محدودة وتصرفات وتجمعات شبابية حول الرقص وتدخين المخدرات ـ أحيانا ـ والسفر خارج حدود العاصمة في أي وقت ـ كل واحد له حكاية ومأساة, ما بين سفر الآباء, طلاقهم, شجارهم, أو انشغالهم بعملهم علي حساب الأبناء.. كل واحد منهم يعتقد أنه وفر لابنه كل شيء, لمجرد انه يغدق عليه بالمال.
لو سألتنا جميعا لقلنا بعلو صوتنا, نحن لسنا سعداء... كنا في حاجة إلي حنان أهالينا وتفهمهم ورقابتهم وحتي قسوتهم ولكننا لم نجد.
تفاصيل كثيرة, لا أريد أن أبعد بها عن القصة الرئيسية, عن ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه اني مريضة بالإيدز وأنا في طريقي لارتكاب المعصية الكبري.
في صيف عام2003 عادت أسرتي من الخارج وكنت وقتها قد أنهيت عامي الدراسي الأخير بالجامعة, عادوا ومعهم عريس, ابن أحد أصدقائهم, جاوز الثلاثين بقليل, وجمع ثروة لا بأس بها, وعاد الي مصر ليفتتح شركة في مجال التصدير والاستيراد, رأي فيه والداي عريسا مناسبا يستر عارهما قبل أن يشيع بين الناس, لم يستمعا الي رفضي, أو رغبتي في منحنا فرصة للتعارف أو التفاهم.. فهما مرتبطان بموعد للعودة, والعريس جاهز, شقته معدة حسب مزاجه وذوقه, ولا ينقصها إلا الدبيحة, أقصد العروس التي هي أنا.
هو كان مثلهما جافا, سعيدا بجمالي, ولم ينظر قط الي تفكيري أو احتياجي.. وخلال أسابيع قليلة انتهي كل شيء, أصبحت زوجته وسجينته.
عشت أسوأ أيام عمري مع رجل قاس, لم يفكر يوما في احتياجاتي النفسية قبل الجسدية... يسخر من كل شيء أقوله أو أفعله, ليس علي سوي تنفيذ رغباته لإرضاء رجولته المزعومة.. حرمني من كل الأصدقاء, حتي تليفوني كان مستباحا منه.
ذات يوم تجرأت ونحن في لحظة خاصة, وقلت له لماذا لا تفكر في إسعادي, فاستدرجني في الكلام, حتي قلت له اني غير مستمتعة معه وانه يظلمني ويحرمني حقوقي, فقال لي انت امرأة ساقطة وباردة وسأعيد تربيتك من جديد, وانهال علي ضربا وسبا, حتي تورم وجهي وجسدي.. وكانت هذه هي بداية انتهاء آدميتي.. فقد تفرغ زوجي لتدميري, لسحق أي إحساس بأنوثتي.. كان اليوم الذي يمر بدون ضرب لا يحسب من عمري.. كنت أسلمه جسدا ميتا, أذهب بروحي الي عالم آخر, أدعو فيه ربي أن يعفو عني من هذا السجن وأعاتب والدي بل ألومهما علي ما فعلا بي, سامحهما الله.
لن يغيب عن خيالك, اني هربت مرات الي بيت جدتي, والي الشارع, بل الي قسم الشرطة, ولكنه كان يعيدني, لاني وحيدة بلا سند, وأبي كان يلومني ويسمع له ولا يستمع لي, بل يحملني كل المسئولية عن هذه العلاقة الفاشلة البائسة.
عامان من هذا العذاب حتي انفصلنا, حصلت علي الطلاق بعد ان حررت له محضرا في قسم الشرطة بعد ان شج رأسي في إحدي غزواته, فاستجاب لي بعد ان تنازلت له عن كل شيء, ولم يستطع ابي ان يشارك في طلاقي لأنه كان مشغولا شويتين!
سيدي.. كان لابد أن أحكي لك هذا التاريخ لتفهم ـ فقط تفهم ولا تلتمس الأعذار ـ ما الذي جعلني أذهب يوما وراء كلام رجل التقيته في احدي المناسبات وأنا أعرف أنه قناص ومخادع. لقد خرجت من هذه التجربة بقايا امرأة, وبقايا إنسان.. ذهبت إلي طبيب نفسي, نجح في تهريبي من نفسي إلي النوم بالمهدئات, ومن اكتئاب مزمن إلي اكتئاب متقطع.. نصحني بالخروج إلي الحياة, فخرجت, وعدت إلي السهر وإلي تجمعات البشر, ألملم صورة الأنثي المحطمة من أفواه الذئاب, فأرضي قليلا.
إلي أن جاء هذا اليوم الذي التقيت فيه صاحب رسالة ستر الله أو من شابهه.. فعل مثلما فعل غيره, اهتم بي وطاردني بالكلمات, ولكنه كان خبيرا أكثر من غيره, فلم يهرب من سخريتي, ولم ييأس من نفوري.. فرض نفسه علي تفاصيل حياتي, اهتم بأنفاسي وأوجاعي, بدأ في ترميم روحي, ثم بدأ يشكل إحساسي بأنوثتي مرة أخري.. أشعرني بأنه غير منجذب إلي أنوثتي, بقدر انجذابه إلي تفكيري واحترامي.
امرأة وحيدة, تعرضت لكل أنواع العذاب وهي في أحلي سنوات عمرها, كل شئ فيها مهدر ومهان, بلا ناصح أو أمين عليها, ماذا يمكنها أن تفعل مع رجل يعدها بما لم تر؟
أنا وغضبي والشيطان معا كل ليلة, كان من السهل عليه أن يقنعني بالذهاب إليه مبررا ذلك لي, بأن ما فعله زوجي معي هو الحرام والاغتصاب بعينه, فأغمضت عيني وقررت الذهاب إليه.. وأنا في طريقي إليه كان صوتا ما بداخلي يهتف بي: عودي, لاترتكبي هذا الإثم.. إذا كان يريدك فليتزوجك.. لم أدر بنفسي بعد ذلك إلا في المستشفي, مصابة بكسور مضاعفة في العمود الفقري والحوض.. واكتشافي المفزع لإصابتي بفيروس الإيدز.
من أين أتاني هذا الفيروس اللعين؟ سؤال طرحته علي نفسي وأنا أصرخ أمام والدي اللذين تكرما علي وآتيا فورا من الخارج.. أقسم بالله انه لم يمسسني بشر غير زوجي..
لا أريد أن أستعيد تلك التفاصيل, لقد مررت بتجربة لايمكن وصفها وكم كانت أليمة لروحي قبل جسدي؟
سيدي.. لم أكتب إليك لأدافع عن نفسي, فقد نلت ما كتبه الله لي, وأنا راضية بقدره وابتلائه وقد أعانني عليه.. ولكن هذه هي الحقيقة التي وصلنا إليها بعد سفري إلي الخارج, فأنا حاملة لفيروس الإيدز بنقل الدم منذ إجرائي الجراحة في تلك الدولة الخليجية.. أحمله منذ سنوات ولم أشعر به, واتخذ والداي إجراءات قانونية تجاه المستشفي ولم يحسم الأمر حتي الآن, وإن كان هذا لايهمني.
سيدي.. قضيت عاما كاملا خارج مصر, وهو عام يعادل كل أعوام عمري.. لقد عرفت الله أخيرا, عرفت جمالا وتذوقت لذة لايعرفها إلا من ذاقها.. تعلمت كيف أناجيه وأطلب وصله بعد أن طلبت عفوه ومغفرته.. سامحت كل من آذاني.. عرف أبي وأمي كم كان خطؤهما فادحا, فليس هناك أبقي من حماية الأبناء ورعايتهم, وقد يكون ماحدث لي منجاة لشقيقي.. لا يؤلمني الآن إلا بكاء والدي الذي لاينقطع.
عدت منذ عامين, وأكرمني الله بالحج بتأشيرة من البلد الأوروبي, وأنا الآن سالمة لا أعاني إلا من آثار بسيطة في الحركة.. أواصل دراستي في الشريعة الإسلامية.. لايفزعني الموت, بل أنتظره كل يوم أملا في رؤية من أحب.
سيدي.. نادمة أنا علي سنوات عمري التي قضيتها في ظلام, ولكني سعيدة اني استعدت بصيرتي في شدة البلاء. فاغفرلي إطالتي, وربما أردت شيئا بالكتابة إليك, فانتهيت إلي شئ آخر.. بدأت راغبة في رفع ظلم ألم بي, وانتهيت إلي حالة من الرضا أدعو الله أن يديمها علي. فادعو لي.. وليغفر لنا الله جميعا.
** سيدتي.. فكرت طويلا ألا أعلق علي رسالتك.. ففيها مايكفي, في ألمها نورها, في عتابها محبة, وفي حواري جملها تجسيد لوجع يسكن واقعنا نراه كل يوم ونغمض عيوننا, وكأن الخنجر ليس في قلوبنا, والدم النازف ليس دمنا.
لايهم كثيرا, إذا كنت تلك المرأة الغائبة في قصة ستر الله, فستر الله ممتد إلي كل القصص والحكايات, المنشور منها والمختبئ في النفوس.
ستر الله أوسع من خطايانا واعترافاتنا, لذا فليس مهما إذا كنت هي أم امرأة أخري سترها الله وأنار بصيرتها وطهرها بوجعها.
أي ألم هذا الذي عايشته وواجهته ــ ياصغيرة ــ وهل يكون درسا للذين ينهزمون في أول مواجهة, أو ييأسون من رحمة الله مع أول ابتلاء!
صغيرة كنت في مواجهة الحياة, في مواجهة قسوة القاهرة التي كثيرا ما تفقد قلبها وتقسو علي الفقراء والغرباء والصبايا والحالمين. تلك القسوة التي واجهتك بعودك الأخضر وتجربتك المحدودة.. لا أعرف كيف يأمن أب أو تنام أم بعيدة عن ابنتها الصغيرة أو ابنها الشاب في مثل هذا الزمان الصعب, هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الذئاب علي الحملان؟
تأمين مستقبلهم شعار يرفعه الآباء مبررين غيابهم بعيدا, وكأن السعادة في المال, لايعرفون أن الاستثمار الحقيقي في الأبناء, بغرس الأخلاق, بحضن دافئ, بهذا الأمان الذي يحتاجه الابن في سني عمره الصعبة ولايستطيع شراء بعض منه بأموال الدنيا.
أي منطق هذا الذي يدفع بأبوين إلي تزويج ابنتهما بمن لاترغب ولاتعرف, حتي يهنأ بالهما, ملقيان بالعبء والمسئولية علي رجل لم تختبر رجولته ولا إنسانيته؟
أهكذا يفعل المؤتمن؟ نعم نحن مؤتمنون علي أبنائنا, وسنساءل أمام الله علي تلك الأمانة وماذا فعلنا بها ولها؟.
سيدتي.. لا أريد أن أخوض ــ مثلك ــ في الحادث الكاشف, ولا في الذئب التائب, ولا في انتقام الله الواضح وحكمته, فمع شدة الإيلام تبدو الرحمة والمغفرة, فمن يلحق بالتوبة قبل فوات الأوان؟
أعرف جيدا ما حدث لك في تلك الدولة الخليجية, فما أصابك, أصاب زميلا لي وزوجته منذ سنوات بعيدة ــ رحمهما الله وغفر لهما ولنا ــ وأصيبا بالفيروس ولم يكونا حاملين له فقط مثلك, ومن المؤكد انك تعرفين الآن أن هناك بعض العلاجات الناجحة لمثل حالتك, وانك قد تعيشين طويلا ــ أمد الله في عمرك وبارك لك فيه ــ فواصلي سيرك نحو العلم والحقيقة, نفعك الله به ونفعنا, ولا أملك أمامك إلا طلب الدعاء منك لي ولأصدقاء بريد الجمعة وإلي لقاء بإذن الله.