السر الخطير
أنا شاب تخرجت في الجامعة, وعشت حياتي مع أبي الذي عرفته رجلا شهما, وقويا, ومحبوبا من كل معارفه, ويحب عمله إلي درجة العشق, أما والدتي فلم أرها أبدا, ولا أعرف لها شكلا, وكنت كلما سألته عنها قال لي: إنها توفيت وأنا طفل صغير, وإذا حاولت الاستفسار عن أقاربي وجدته يروي لي حكايات كثيرا ما شككت في صحتها, لكني لم أجادله كثيرا, وفضلت دائما أن آخذ كلامه علي محمل الجد الذي لا يعرف غيره سبيلا, وتفرغت لدراستي التي تفوقت فيها, ووجدتني أحمل شهادتي الجامعية في الوقت الذي وصل فيه والدي إلي مشارف الثمانين.
وذات يوم اشتد عليه المرض, فأسرعنا به إلي المستشفي, وبعد فحص سريع نقله الأطباء إلي العناية المركزة, وعندما أفاق من الغيبوبة التي دخلها في اليوم السابق, نظر إلي وطلب مني أن آتي إليه في الصباح الباكر لأنه يريدني في أمر مهم, وفي الموعد المحدد كنت واقفا بين يديه وأنا أترقب معرفة ما يريدني فيه, وما يدور في صدره, فأشار لي بيده لكي أجلس إلي جواره, وطلب من عمتي أن تغلق علينا باب الحجرة وتتركنا وحدنا, وهنا لاحظت علامات الاضطراب والخوف علي وجه عمتي, التي نظرت إليه نظرة كلها رجاء ألا يخبرني بما اعتزمه, فهي تعلم السر الخطير الذي يريد أن يسري به إلي, لكنها لم تجد بدا من تنفيذ رغبته, وبدا والدي شاحبا, وأنفاسه متقطعة, وبصعوبة شديدة قال لي: أنا لم أقصر يوما في تربيتك, وفخور بما وصلت إليه, وإذا كنت قد قسوت عليك يوما فلقد كانت قسوتي خوفا عليك ورغبتي في أن تكون إنسانا ناجحا, فانحنيت علي يديه وقبلتهما والدموع تنساب من عيني وعينيه, وقلت له: إنني أكثر فخرا به, وبتاريخه المشرف, وبأنني سعيد بأبوته, وإنني تحت أمره في كل ما يطلبه مني, ومضي في كلامه مصرا علي أن أسمعه حتي النهاية ولا أقاطعه, وفجأة قال لي: أنا لست أباك, والحكاية أنني التحقت بإحدي المؤسسات الوطنية في سنوات الشباب الأولي, واندمجت في عملي, ونسيت نفسي وحياتي الخاصة, ومر بي قطار العمر سريعا دون أن أشعر بمحطاته المتباعدة, ولم أكترث بصافراته أبدا, وكنت كلما حدثني أحد أقاربي عن الزواج وتكوين أسرة لا أخذ الكلام مأخذ الجد, وفجأة أفقت من سباتي العميق بعد أن وصل القطار إلي المحطة قبل الأخيرة لأجد نفسي علي مشارف الستين من عمري, فتقاعدت من الخدمة, وتلفت حولي فإذا بي وحيدا بلا زوجة, ولا أبناء, وشعرت لأول مرة في حياتي بأنني ارتكبت في حق نفسي خطأ كبيرا, ولم تجد محاولاتي للتأقلم مع الوضع الجديد, وأشارت علي شقيقتي بأن أتزوج لكني وجدت أن الوقت لم يعد مناسبا في هذه السن, وعرضت علي الزواج من أرامل كثيرات لديهن أطفال يحتاجون إلي التربية, وحفزتني علي الارتباط بإحداهن لكي أشبع غريزة الأبوة, وعلي مضض وافقت علي عرضها بشرط أن يكون لدي من أرتبط بها طفل صغير أربيه التربية التي نشأت عليها, فراحت تطرق باب من تعرفهن, لكنها لم تجد ضالتي, وأشار علي أحد معارفنا بأن أتبني طفلا صغيرا من أحد الملاجئ, لكنني اصطدمت بإجراءات روتينية ومعقدة.
ومرت الأيام وذهبت ذات يوم إلي صديق لي في قرية قريبة من المدينة, وأفضيت إليه بهمومي وأحزاني, فأخبرني بأن لديه الحل السحري لما أعانيه, حيث إن هناك سوقا سوداء لبيع الأطفال في القري, وهي سوق غير معروفة ولا يعلم الكثيرون عنها شيئا, لكني رفضت هذه الفكرة, فألح علي كثيرا بقبولها قائلا لي: إن آباء هؤلاء الأطفال لا يقدرون هذه النعمة, ويلقون بأطفالهم في الشوارع إذا لم يجدوا من يشتريهم, وأخبرني أيضا بأن هناك عصابة متخصصة في تزوير الأوراق الرسمية قادرة علي استخراج شهادات باسمي للطفل الذي سأشتريه! وبالرغم من عدم اقتناعي بذلك فإنني انسقت وراء صديقي, وذهبنا إلي سمسار عرفنا علي أب وأم يريدان بيع طفلهما مقابل مبلغ من المال, فأعطيت لهما ما طلباه, وأخذت الطفل ولم يكن وقتها قد أكمل عدة أشهر من عمره, وكتبته باسمي, ورعته شقيقتي وحققت من خلاله أحلامي في الأبوة, ولم يكن هذا الطفل سوي أنت يا ابني, وكان ضروريا أن أشرح لك القصة كاملة قبل أن أغادر الحياة, فإذا كنت قد أخطأت في حقك فأرجوك أن تسامحني.
لقد سمعت هذه القصة المؤلمة من والدي الذي لم أعرف سواه, وأنا في ذهول, وأخذت منه ورقة باسمي أبوي الحقيقيين لكي أراهما وأعرف حقيقة ما حدث وأتبين بنفسي الجريمة التي ارتكبها من أنجباني, وأسرعت إلي القرية المشئؤمة, وسألت عن الاسمين المدونين بهما, فنظر إلي الأهالي بتوجس وهم يتوهمون بأنني رجل بوليس, وأشاروا إلي المنزل الذي يوجد فيه من أسأل عنهما, فطرقت الباب فلم يرد علي أحد, ولمحت مقهي صغيرا بالقرب منه فذهبت إليه وسألت صاحبه عن المذكورين فأكد لي أنهما مختبئان بداخل المنزل, وعندما علما بقدوم شخص غريب يسأل عنهما أغلقا الباب ولم يردا علي الطارق! نظرا لكثرة الجرائم التي يرتكبانها, من تجارة مخدرات, وسرقات, ونصب وغيرها, وتركت صاحب المقهي واتجهت إلي المنزل واقتحمته بالقوة, وكانت المفاجأة أنني وجدت فيه مجموعة من الأطفال المشردين, وإلي جوارهم رجل تبدو ملامحه أكبر من سنه بكثير, فهو هزيل الجسم, وسكير, وتجلس معه سيدة تدخن السجائر, وتردد بلا وعي سيبونا في حالنا.. انتو عايزين مننا إيه, فقلت لهما إنني ابنهما الذي باعاه منذ سنوات طوال, فلم يدركا ما أقول, ولاحظت أن السيدة عندما قلت لها
ذلك نظرت إلي الأرض وقد أصابها الذهول, وسألتها: هل بعتي أحدا غيري؟ فقالت لي: إنها باعت طفلا آخر, وكان واضحا أنها تخنها الذاكرة, وأن الموضوع انتهي بالنسبة لها منذ أن باعتني وقبضت الثمن.
وبعد لحظات مرت كالدهر خرجت من عندهما وتوجهت إلي والدي في المستشفي وقبلت يديه, وقلت له: إنني لا أعرف أبا سواك, فلقد انتشلتني من الضياع, وكنت لي نعم الأب, ورافقته في المستشفي وأنا أترقب حالته, ولم تمر أيام معدودة حتي فاضت روحه إلي بارئهافبكيته بكاء مريرا, ووقفت أتقبل فيه التعازي, فهو أبي الذي لا أعرف غيره, وصممت علي أن أصل إلي شقيقي الذي بيع مثلي, فخضت مصاعب عديدة, ومن شخص إلي آخر عرفت أنه مات, وأجدني الآن في حيرة وأتساءل: هل أنا علي حق في مشاعري, وأنا صادق في كرهي لأبي وأمي اللذين باعاني؟ وهل أنا صادق في حبي لأب جميل تبناني وعلمني وجعل مني رجلا؟ وهل مثلي يمكن أن يكون إنسانا سويا يعيش حياته في هدوء نفسي, وطمأنينة مثل الآخرين؟
لا تقاس الأمور بمقياس الحب لمن ساندوك, والكراهية لمن تخلوا عنك, فقصتك ياسيدي حافلة بالأحداث والنتائج والعبر التي ينبغي أن نتوقف عندها ونأخذ منها دروسا نستفيد بها في حياتنا, فأما الرجل الذي تبناك فلقد ارتكب خطأ جسيما حينما منحك اسمه مع علمه بأن التبني حرام, وأن الأفضل والأصوب هو أن تدعي إلي أبويك الحقيقيين, ولا مانع من أن يقوم علي تربيتك تربية صالحة بعيدا عن الجو الموبوء الذي ولدت فيه, فلقد كان رجلا معروفا في المجتمع, ويشغل وظيفة مرموقة في واحدة من كبريات المؤسسات في الدولة, وما كان لمثله أن يرتكب هذا الإثم في حقك, فلو أن القدر شاء أن يرحل من الدنيا دون أن يخبرك بأبويك الحقيقيين ما كنت تعلم ذلك طوال عمرك, وربما ترتب علي ذلك اختلاط الأنساب فيما بعد, وحسنا أنه صحح خطأه قبل رحيله لكي يلقي ربه وهو مرتاح الضمير.
أما أبواك الحقيقيان فهما يمثلان حالة اجتماعية تسربت إلي مجتمعنا وأصبحت تشكل ظاهرة, وهي بيع الأطفال إلي الأغنياء الذين لم ينجبوا, أو إلي الأثرياء العرب الذين يتخذونهم قطع غيار بنزع أجزاء من أجسادهم, ولقد تنبهت إلي خطورة هذه الجريمة وتأثيرها المستقبلي علي مجتمعنا, فتناولتها في بريد الأهرام من واقع رسائل القراء التي تروي تجاربهم مع هذه المأساة, وقد أسرعت أجهزة الأمن المسئولة إلي ضبط عصابات متخصصة في بيع هؤلاء الأطفال, ومازالت هناك أسرار كثيرة في هذا العالم المليء بالغموض, والمدهش حقا أن السيدة التي روت لي كيف أن زوجها يبيع أطفاله التوائم فور ولادتهم مازالت تشكو من أن أحدا من رجال الأمن لم يتحرك لإنقاذ أطفالها القادمين, حيث إنها حامل الآن في ستة أجنة, وكلي أمل في أن يتحرك المسئولون بقسم الشرطة الذي تتبعه هذه السيدة لتفادي هذه الجريمة قبل حدوثها.
وأعود إلي أبويك الحقيقيين فأقول لك: إنني لا أؤيدك في أن تتخلي عنهما وتتركهما في مهب الريح فيما تبقي لهما من عمر, وإنما عليك أن تقومهما, وأن تفرج عن الأطفال المحجوزين في بيتهما, ويمكن أن تسلمهم إلي أحد الملاجئ, وأن تواصل سعيك لاستعادتهما إلي الطريق السليم, فهما في النهاية أبواك, ومادمت قد علمت الحقيقة فسوف يحاسبك الله عليهما, فعليك أن تتلمس الخطي نحو المستقبل وأنت آمن علي نفسك, ومطمئن إلي أن الله سوف ينير لك الطريق ويرشدك الي مايحبه ويرضاه.
ومن حق الرجل الذي رعاك وهيأ لك كل متطلبات النجاح في الحياة أن تدعو له بالرحمة والمغفرة, وأن تذكره دائما بكل خير.
أما أنت ياسيدي فعليك أن تنظر إلي الدنيا بعين جديدة, وأن تدرك أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك, وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وأن التقرب من الله عز وجل هو العلاج الوحيد لك للخروج من الحالة النفسية السيئة التي تسيطر عليك, وأنني علي ثقة بأنك سوف تعود قريبا إلي حياتك الطبيعية, وستصبح هذه المأساة التي ألمت بك مجرد ذكري, فاستعن بالله سبحانه وتعالي, وإلي الأمام دائما.