حدائق الحياة
أشرق صباح ذلك اليوم من أيام الشتاء علي جو صحو منعش, مما جعلني أستيقظ مبكرا في نشاط وحيوية وأنا أمني نفسي بزيارة قصيرة من زياراتي القليلة لأجمل مدينة مصرية علي الإطلاق.. وراح عقلي يجول بذكرياته المنطوية في جانب النسيان إبان عملي بالساحل الشمالي بإحدي القري السياحية.. اخذت عجلات القطار تنهب الأرض نهبا ومازالت افكاري معلقة بذكرياتي الأثيرة حتي ظهرت أمامي فجأة. كانت فتاة في العشرين من عمرها تقريبا تغض طرفها عن الجالسين بالمقاعد.. جلست أمامي في هدوء ثم ما لبثت أن اخرجت كتابا دينيا أخذت في قراءته بلهفة وإمعان وكأنها لا تشعر بما حولها.. ولأن الأمر مستغرب ـ للأسف ـ وهو اهتمام فتاة في مثل عمرها بالكتب الدينية في وقت اعتادت عيوننا علي رؤية معظم الفتيات منهمكات في أمور تافهة مع صوت الضحكات العابثة والكلمات غير المسئولة والأزياء غير المنضبطة, كل هذا جعلها تلفت انتباهي والجالسين من حولي بشخصيتها التي بدت غريبة الأطوار, حتي لاحظت هي ذلك وكأنها قرأت ما يجول بخاطري فبادرت بإعطائي الكتاب في أدب مشوب بالهدوء ثم أخرجت من حقيبتها كتابا آخر واخذت تلتهم حروفه وكلماته في سعادة جمة وكأنها تمارس إحدي هواياتها المفضلة. ثم انتبهت فجأة علي صوت بائعة التسالي بالقطار.. كانت فتاة صغيرة في عمر الزهور يبدو عليها رقة الحال ورثاثة الهيئة, فوجئت بها ترفع عينيها عن الكتاب وتنظر إلي الفتاة في عتاب شديد وأخذت تعنفها علي أنها لم تسمع نصيحتها مرارا وتكرارا.. بدت وكأنها تعرفها منذ زمن بعيد.. بلغ فضولي مبلغه في هذه اللحظة وسألها من بجواري عن طبيعة عملها.. كانت كلماتها قليلة مقتضبة.. روت في حكايتها أنها تعمل في دار للأيتام بالقاهرة وأنها من مدينة دمنهور وهي في زيارة لأسرتها هناك.. تحدثت عن قسوة طباعها قبيل عملها وإحساسها بالفراغ بعد انتهاء تعليمها المتوسط وكيف تغير حالها بعد أربع سنوات كاملة بهذه الدار من النقيض إلي النقيض. ذكرت كيف غيرت مخالطة الأيتام والعناية بهم سلوكها ونظرتها للحياة ككل.. كيف هذبت معاملة الأطفال وتربيتهم تطلعاتها المستقبلية, وكيف غذت في نفسها صفات الصبر والحب والحنان والقدرة علي مواجهة أصعب المواقف بهدوء وروية.. كانت تتحدث بهيام شديد وكأنها تذكر أجمل ما عندها. شردت بافكاري بعيدا وتأملت في كلماتها المؤثرة, وعزمت في نفسي علي زيارة دار الأيتام القريبة من سكني لأري تأثير ما سمعت من هذه الفتاة. استغرقت بعدها في لجة من افكاري حتي اكتملت رحلتي إلي بيت القصيد.. محطة سيدي جابر ومازال صدي حديثها يجد مكانا فسيحا في قلبي. وفي زيارتي لدار الأيتام لأول مرة في حياتي رأيت اناسا آخرين يعيشون خلف جدران النسيان.. طواهم الزمن وغلفتهم أستار الحياة.. ابوا أن يبكوا علي حالهم ويندبوا حظوظهم. رأيت اطفالا تري في عيونهم البريئة ابتسامة الحياة.. يرسم الأمل إشراقته علي وجوههم الصغيرة.. ينخلع مع حركاتهم وشقاوتهم قلبك ووجدانك.. في ملامحهم الوضاءة يهون في فؤادك كل حزن وألم.. تنسي معهم همومك ومشاكلك.. ضحكاتهم العذبة تهز مشاعرك بعنف.. تعصف بكبريائك وغرورك.. تجعلك تري سعادة حية تمشي علي أرض الواقع. انهم يحفظون القرآن.. يتعلمون الكمبيوتر ومقتنيات العصر الحديث.. يتعلمون اركان الإسلام.. يصلون ويصومون وأكبرهم سنا لا يتجاوز السابعة من عمره. رأيت ما اسعد قلبي وشرح صدري وجعل دموعي تسيل فرحة وبهجة بهم وبعملهم, وصدقني لا تستطيع أن تتمالك نفسك وأنت تنظر إليهم وهم يمسكون بتلابيبك ويتقافزون من حولك ويسألونك لم لم تزرهم من قبل؟ أتحداك ان تتمالك إحساسك بالبكاء وحاجتك لإفراغ مشاعرك في دموع غزيرة لا تستطيع التحكم فيها ولا منعها.. ويهون في عينيك الدنيا بما فيها وتشعر بأن الحياة ما هي إلا لحظات نجنيها.. لحظات يندر تكرارها.. تشعر بأن عمرك كله لا يكفي لصنع لحظة سعادة كتلك اللحظة التي تحتويك معهم وكأن الزمن قد توقف عندهم.. عند طهارة قلوبهم الصغيرة التي لم تعرف الظلم ولا الحقد ولا الكراهية يوما ولا أقل من ذلك.. هم ومن تكفل برعايتهم نبتا انسانيا موجود في كل مكان.. ولكننا لا ندري عنهم شيئا.. يجب ألا نغفل علي الأقل احساسنا معهم بالتواصل الوجداني ومحاولة تخفيف معاناتهم حتي وإن اخذتنا الدنيا واودعتنا مشاكلها ونزاعاتها.. ينبغي أن يكون لكل منا دور حقيقي في خدمة هؤلاء وغيرهم ممن انقطعت بهم السبل إلا سبيل الله فقط.. فهم اخواننا وابناؤنا ومن الفرض علينا ألا ندعهم يواجهون الحياة بكل معاناتها بمفردهم. إنني اخاطب في نفسي وفيكم روح الإنسانية وادعوكم لزيارتهم, فهم احوج ما يكون الي كل يد حانية وكل قلب رحيم.. فبمرآكم يرون العالم الذي لا يستطيعون الخروج إليه.. ولا تطوله ايديهم.. يتصبرون بحنانكم علي مرارة الحرمان والفقد لكل رابط عائلي كي يشعروا بوجودهم الطبيعي في كينونة الحياة.. يجب أن نصلهم ونمد لهم يد العون والمساعدة كل بحسب طاقته وقدرته.. ليس بالمال وحده تتواصل المشاعر الإنسانية وتسمو علي فوارق العادات والأجيال.. بل بالعاطفة الجياشة والأفئدة البيضاء الطيبة.. باللمسة الحانية.. بالربت علي رؤوس واكتاف الأطفال اليتامي.. بالتعبير عن الرحمة المنسية في دهاليز القلوب والوجدان.. بحب النفس للنفوس الأخري ومشاركتها جزءا من حياتها, بذا تسمو الروح ويتنفس القلب.. يستريح الضمير.. تسكن العواطف من أناتها, ويجد الجسد المكدود بالجري خلف الدنيا ضالته المنشودة. حين تري فتاة صغيرة أو سيدة مسنة تسير برفقة مجموعة منهم إلي أحد المستشفيات.. منهم المريض والمصاب, ومنهم المحتاج إلي الرعاية الطبية الفائقة.. ولا تربطها بهم أي قرابة إلا ابتغاء وجه الله والجنة.. حين تجد الأطباء ـ جزاهم الله كل خير ـ يتسابقون لرعايتهم والتخفيف من آلامهم تجد نفسك مشدوها أمام حب من نوع نادر, قلما تجده في المعاملات الإنسانية, انها والله ارفع مشاعر الرحمة التي نفتقدها بيننا نحن الأصحاء الأسوياء الذين ننعم بوجودنا بين أسرنا وأهلينا.. انها بطاقة دعوة لكل ذي لب حي.. لكل صاحب فطرة وقلب سليم. دعوة لسقاية النبت الرائع في زمننا وفي كل الأزمان.. النبت الذي كان قدره العيش خلف الحوائط والأسوار.. نبت دور اليتامي واللقطاء.. الذين نتمني ألا ندعوهم كذلك في المستقبل.. فقد يكون منهم أساتذة ومهندسون وأطباء يقودون مسيرة غيرهم.. دعواتنا لهم بحفظ الله لهم ومن يقوم بكفالتهم ورعايتهم.. دعواتنا لهذا النبت الذي تتفتح براعمه بالأزهار يوما بعد يوم.. بين ذكريات ماضيه الأليم وغده الآتي ببشارة السعادة.. في حدائق الحياة |